لعل كثيرين يعرفون قصيدة "الأرملة المرضع" للشاعر العراقي معروف الرصافي، بل وربما يحفظونها عن ظهر قلب ، تناقلتها الأجيال المعاصرة جيلا بعد جيلٍ ، لكنهم حتما لا يعرفون قصة هذه القصيدة والمقام الذي وردت فيه... قصة مأسوية من واقع الرصافي نفسه عن أرملة فقيرة مهمشة تضامن معها ، وعبّر عن معاناتها بأسلوب فني متميز...
ومضمونها أن ﺍﻟﺮﺻﺎﻓﻲ كان ﺟﺎﻟﺴًﺎ ﻓﻲ ﺩﻛﺎﻥ ﺻﺪﻳﻘﻪ وبينما كان يتجاذب أطراف الحديث معه إﺫ ﺑﺈﻣﺮﺃﺓ ﻣﺤﺠﺒﺔ - ﻳﻮﺣﻲ مظهرها بفقرها الشديد - ﺗﺤﻤﻞ ﺻﺤﻨًﺎ ﻭﻃﻠﺒﺖ ﺑﺎﻹﺷﺎﺭﺓ ﻣﻦ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﺃﻥ ﻳﻌﻄﻴﻬﺎ ﺑﻀﻌﺔ ﻗﺮﻭﺵ ثمنا ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﺼﺤﻦ، ﻟﻜﻦ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﺪﻛﺎﻥ ﺧﺮﺝ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻭﺣﺪﺛﻬﺎ ﻫﻤﺴًﺎ، ﻓﺎﻧﺼﺮﻓﺖ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮﺓ...
ﻫﺬﺍ المشهد أثار فضول الرصافي و جعله يستفسر عن جليّة الأمر ﻣﻦ ﺻﺪﻳﻘﻪ ﻋﻨﻬﺎ وعن قصتها ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ صديقه
ﺇﻧﻬﺎ ﺃﺭﻣﻠﺔ ﺗﻌﻴﻞ يتيميْن ، ﻭهما الآن جائعان ، ﻭﺗﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﺗﺮﻫﻦ ﺍﻟﺼﺤﻦ بأربعة ﻗﺮﻭﺵ ﻛﻲ ﺗﺸﺘﺮﻱ ﻟﻬﻤﺎ ﺧﺒﺰًﺍ، ﻓﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺻﺎﻓﻲ ﺇﻻ ﺃﻥ لحق ﺑﻬﺎ ﻭأعطاها ﻣﺎ ﻳﻤﻠﻜﻪ ﻓﻲ ﺟﻴﺒﻪ من قروش، ﻓﺄﺧﺬﺕ ﺍﻷﺭﻣﻠﺔ ﺍلمال على مضض وٱستحياء... ﻭﺳﻠﻤﺖ ﺍﻟﺼﺤﻦ ﻟﻠﺮﺻﺎﻓﻲ طالبة منه أن يأخذه بدل المال ، ﻓﺮﻓﺾ ﺍﻟﺮﺻﺎﻓﻲ ذلك ﻭﻏﺎﺩﺭﻫﺎ ﻋﺎﺋﺪًﺍ ﺇﻟﻰ ﺩﻛﺎﻥ ﺻﺪﻳﻘﻪ ﻭﻗﻠﺒﻪ ينفطر حزنا...
رجع ﺍﻟﺮﺻﺎﻓﻲ ﺇﻟﻰ ﺑﻴﺘﻪ، ﻭﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﺍﻟﻨﻮﻡ ﻟﻴﻠﺘﻬﺎ، ﻭﺭﺍﺡ ﻳﻜﺘﺐ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﺼﻴﺪﺓ ﻭﺍﻟﺪﻣﻮﻉ ﺗﻨﻬﻤﺮ ﻣﻦ ﻋﻴﻨﻴﻪ ﻛﻤﺎ ﺃﻭﺿﺢ ﻫﻮ ﺑﻘﻠﻤﻪ ، وكان كل مافيها يصور ﻣﺸﻜﻠﺔ ٱﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ٱﺳﺘﺄﺛﺮﺕ ﺑﺎﻫﺘﻤﺎﻡ ﺍﻟﻤﻌﻠﻤﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺱ الاﺑﺘﺪﺍﺋﻴﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪ ﻭٱﻋﺘﺒﺮﻭﻫﺎ أنموﺫجا مادامت تعبر عن واقع الكثيرين...
يقول الرصافي :
" ﻟَﻘِﻴﺘُﻬﺎ ﻟَﻴْﺘَﻨِـﻲ ﻣَﺎ ﻛُﻨْﺖُ ﺃَﻟْﻘَﺎﻫَـﺎ
ﺗَﻤْﺸِﻲ ﻭَﻗَﺪْ ﺃَﺛْﻘَﻞَ ﺍﻹﻣْﻼﻕُ ﻣَﻤْﺸَﺎﻫَـﺎ
ﺃَﺛْﻮَﺍﺑُـﻬَﺎ ﺭَﺛَّـﺔٌ ﻭﺍﻟﺮِّﺟْﻞُ ﺣَﺎﻓِﻴَـﺔٌ
ﻭَﺍﻟﺪَّﻣْﻊُ ﺗَﺬْﺭِﻓُﻪُ ﻓﻲ ﺍﻟﺨَﺪِّ ﻋَﻴْﻨَﺎﻫَـﺎ
ﺑَﻜَﺖْ ﻣِﻦَ ﺍﻟﻔَﻘْﺮِ ﻓَﺎﺣْﻤَﺮَّﺕْ ﻣَﺪَﺍﻣِﻌُﻬَﺎ ﻭَﺍﺻْﻔَﺮَّ ﻛَﺎﻟﻮَﺭْﺱِ ﻣِﻦْ ﺟُﻮﻉٍ ﻣُﺤَﻴَّﺎﻫَـﺎ
ﻣَﺎﺕَ ﺍﻟﺬﻱ ﻛَﺎﻥَ ﻳَﺤْﻤِﻴﻬَﺎ ﻭَﻳُﺴْﻌِﺪُها ﻓَﺎﻟﺪَّﻫْﺮُ ﻣِﻦْ ﺑَﻌْﺪِﻩِ ﺑِﺎﻟﻔَﻘْﺮِ ﺃَﺷْﻘَﺎﻫَـﺎ
ﺍﻟﻤَﻮْﺕُ ﺃَﻓْﺠَﻌَﻬَـﺎ ﻭَﺍﻟﻔَﻘْﺮُ ﺃَﻭْﺟَﻌَﻬَﺎ
ﻭَﺍﻟﻬَﻢُّ ﺃَﻧْﺤَﻠَﻬَﺎ ﻭَﺍﻟﻐَﻢُّ ﺃَﺿْﻨَﺎﻫَـﺎ"...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق