صفحة من مذكراتي
في ثمانينات القرن الماضي ,كنت شابّا يافعا مندفعا في الثالثة والعشرين من عمري لمّا غادرت مدرّجات الجامعة لاعيّن معلما بسجنان فسكنت منزلا زُرع في قلب الغابة في اطار مقفر من السّكّان لان المنازل كانت مبعثرة هنا وهناك. لكن التلاميذ كانوا يتدفقون كل يوم من كل حدب لانّ المدرسة كانت بعيدة عنهم ليؤثّثوا الفضاء ويُؤنسوا وحدتي قبل ان يُغادروا في المساء ليتركوني وحيدا مع الذئاب والخنازير ومحاطا بأشجار الصنوبر والفلين . ولولا صوت المذياع الذي كان يرافقني والضوء الخافت الذي كان يرسله مصباحي البدائي لأصابني مسّ. وكنت ابدّد وقت فراغي في مساعدة بعض الاطفال على مراجعة دروسهم فكنت اقرأ الفقر والفاقة في وجوههم الكالحة والجهل والسذاجة في تفكير وكلام ابائهم وطريقة قراءتهم للأشياء في تصادم صارخ مع كل ما كانت تغدق به الطبيعة عليهم من كرم , لذلك كنت مرنا في التعامل معهم ومتفهما ففجّرت عندهم عُقد الدّين والتقاليد البالية وجعلتهم يتخلّصون من بعضها عن وعي واقتناع .
وكما كان الدكان الذي بُني في مسلك الاطفال يُؤمّن ما يحتاجه الاهالي من زيت وسكر ودقيق فهو يجمّع، ايضا، بعض الشيوخ والكهول بعد عصر كل يوم للعب الورق والتحدث في كل شيء ......كان احدهم يدعوني لاجالسهم فكنت استجيب لكسر شوكة الفراغ وتمزيق الصمت الرهيب الذي بدأت اتعوّد عليه حتى أصبحت في ظرف وجيز معلما لرواد الدكان كما للأطفال فكنت اعلم القراءة والكتابة والحساب والاخلاق للصغار ،و كنت اهذّب ذوق الكبار واعلّمهم فنون التواصل والادب والحياة والاجتماع والسياسة بأسلوب سلس بسيط ينفذ الى الاذهان بسهولة أدهشتهم جميعا حتى تحولت الى ملك عليهم وقدوتهم واصبحت في اقل من ستة اشهر مضرب الامثال وذاع صيتي بين اطراف الغابة واصبحت حديث البيوت لأني كنت قد استوليت على العقول وتسللت إلى القلوب دون استئذان .......
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق